وأما موسى عليه السلام في حواره مع فرعون فأمر عجيب، فهو كان راعياً للغنم؛ ولكنه عرف الله، وكان لديه عصاً لها أخبار وأعاجيب، كان يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه.
وأما فرعون فهو رجل دجال مخرف.
رجل وقف في الناس جميعاً ليقول لهم: ((مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي))، ويقول لأهل مصر: ((أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى)).
فلما قال تعالى لـموسى : ((اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى)) قال في أول الطريق: ((قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي))، فشرح الله صدره وهيأه للذهاب ومقابلة هذا الطاغية.
وسبحان الله! فقد ذاق كثيراً من الناس اللذائذ بأنواعها المختلفة، ولكنهم ما وجدوا ولا أحسوا حلاوة الإيمان، ولا أحسوا بطعم هذه المأكولات والمشروبات؛ لأن صدورهم وقلوبهم لم تنشرح بنور الإسلام والإيمان وسنة خير الأنام صلى الله عليه وسلم، إنما موسى صلى الله عليه وسلم قال: ((قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي))، يريد عليه السلام أن يكون داعية وواعظاً وناصحاً للناس ليتعرفوا على ربهم ويتجهوا إلى خالقهم.
ومن هذا يمكن أن نستنبط درساً لطلبة العلم في بلادنا وفي جميع بلاد المسلمين قاطبة وحتى للمسلمين في غير بلاد المسلمين أن يتعلموا الخطابة والكتابة ليستطيعوا أن يقفوا في الناس داعين إلى الله عز وجل لهداية البشر وإرجاعهم إلى ربهم على منهاج نبيهم، وأن يتعلموا فن الكلمة ولباقة الحوار والسحر الحلال ليحولوا حال الناس من الظلام إلى النور، ومن الضلالة إلى الهدى والإسلام.
ثم قال: ((وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي))؛ لأنه قد تلعثم في صغره فأحلّ الله عقدته.
ثم استجاب له أيضاً عندما دعا قائلاً: ((وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي))، فجعل الله عز وجل أخاه هارون مساعداً له ووزيراً؛ وذلك مصداق قوله تعالى: ((قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى)).
وذهب موسى و هارون إلى فرعون ، وقال الله لـموسى و هارون وهما في الطريق: ((اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى))، أي قد تجاوز الحد واعتدى وتجبر وتكبر على منهج ربه؛ ولكنْ ((فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)).
فالقلوب لا تلين إلا للكلمة الحانية والأسلوب الرائع، والآذان لا تستمع إلا إلى الحب والصفاء، والقلوب والأرواح لا تنقاد إلا إلى الحكمة.
قال سفيان الثوري في تفسير قوله تعالى: ((فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)): القول اللين هو أن يكني فرعون ، أي: يدعوه ويقول له: يا أبا فلان!
فأنت عندما تدعو وتنادي صديقك بكنيته فإنه يفرح وينتعش ويستبشر ويبتهج ويهش ويبش.
يقول الشاعر:
أكنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه والسوءة اللقبُ
كذاك أدّبت حتى صار من خلقي أني وجدت ملاك الشيمة الأدبُ
فدخل موسى و هارون على فرعون ، وكانت كنيته كما قال أبو أيوب الأنصاري و سفيان الثوري ( أبو مرة ) مرر الله وجهه في النار!
قال له موسى : يا أبا مرة إن أردت أن يبقي الله عليك شبابك وملكك وأموالك وشهرتك فعليك أن تؤمن بالله وحده.
فقال فرعون : ((قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى))؟
سبحان الله! فقد أنكر وجود الله.
والله يقول: ((يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ)).
((قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى))؟
فلو قال موسى : ربي الله، سيرد عليه فرعون قائلاً: أنا الله، ولو قال: ربي هو ربي، لقال: أنا ربك!
فماذا سيقول موسى ؟
قال موسى : ((رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)).
وهذه مواصفات لا تكون إلا في الواحد الأحد جل في علاه، وهذه لا ينكرها إلا جاهل جاحد مضل، حتى أن ابن القيم يقول: لما قال فرعون : ((مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي))، قال: هذا كلام في الظاهر؛ ولكنه في الباطن يعلم أن هناك إلهاً كريماً جواداً، ويعلم أن من خلق السموات والأرض إله قادر واهب قيوم يعلم السر وأخفى، حتى يقول موسى له: ((قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا)).
قال موسى : ((قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى))، هدى جميع الكائنات الحية إلى معيشتها ومصالحها، فقد هدى النملة إلى أن تأتي إلى جحرها فتحتفظ بالحبة من الصيف إلى الشتاء، وهدى النحلة أن تسافر مئات الأميال والكيلومترات وتأخذ الرحيق وتضعه في الخلية.
وهدى.. وهدى..
فسبحان الله! ما أجل الله وما أحقر من ابتعد ولم يتعرف عليه سبحانه وتعالى.
قال فرعون لـموسى : ((قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى))؟
ما بال الناس يموتون ولا يرجعون من لدن آدم إلى أجدادنا وآبائنا، وهذه الكلمة هي كلمة الكفار والملاحدة في كل زمان.
فيرد موسى على فرعون رداً جميلاً مؤدباً كما أوصاه الله عز وجل: ((قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى))، فدمغه وقضى عليه وهزمه وأزهقه وانتصر عليه في الديوان وفي الميدان بإذن الواحد الديان؛ لأن موسى هو التقي، والفاجر الشقي هو فرعون فانتصر التقي على الشقي بحمد الله.